كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



اعلم أن كلًا من الأئمة أخذت عليه مسائل. قال بعض العلماء: إنه خالف فيها السنة.
وسنذكر طرفًا من ذلك هنا إن شاء الله.
أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فهو أكثر الأئمة في ذلك. لأنه أكثرهم رأيًا.
ولكثرة المسائل اتي حصل فيها القيل والقال من ذلك لا نحتاج إلى بسط تفصيلها.
وبعض المسائل اتي قيل فيها ذلك يظهر أنه لم تبلغه السنة فيها. وبعضها قد بلغته السنة فيها. ولكنه تركها لشيء آخر ظنه أرجح ممنها.
كتركه العمل لحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال.
وحديث «تغريب الزاني البكر» لأنه ترك العمل بذلك ونحوه احترامًا للنصوص القرآنية في ظنه.
لأنه يعتقد أن الزيادة على النص نسخ وأن القضاء بالشاهد واليمين نسخ. لقوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} [البقرة: 282].
فاحترم النص القرآني المتواتر. فلم يرض نسخه بخر احاد سنده دون سنده.
لأن نسخ المتواتر بالاحاد عنده. رفع للأقوى بالأضعف. وذلك لا يصح.
وكذلك حديث تغريب الزاني البكر فهو عنده زيادة ناسخة لقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وليشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] والمتواتر لا ينسخ بالاحاد.
فتركه العمل بهذا النوع من الأحاديث بناه على مقدمتين:
أحداهما: أن الزيادة على النص نسخ.
والثانية: أن المتواتر لا ينسخ بالاحاد.
وخالفه في المقدمة الأولى جمهور العلماء.
ووافقوه في الثانية.
والذي يظهر لنا ونعتقده اعتقادًا جازمًا أن كلتا المقدمتين ليست بصحيحة.
أما الزيادة فيجب فيها التفصيل.
فإن كانت أثبتت حكمًا نفاه النص أونفت حكمًا أثبته النص فهي نسخ.
وإن كانت لم تتعرض للنص بنفي ولا إثبات بل زادت شيئًا سكت عنه النص فلا يمكن أن تكون نسخًا لأنها إنما رفعت الإباحة العقلية التي هي البراءة الأصلية.
ورفعها ليس نسخًا إجماعًا.
وأما نسخ المتواتر بالاحاد.
فالتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا مانع منه ولا محذور فيه. ولا وجه لمنعه ألبتة. وإن خالف في ذلك جمهور أهل الأصو ل.
لأن أخبار الاحاد الصحيحة الثابت تأخِرها عن المتواتر لا وجه لردها. ولا تعارض ألبتة بينها وبين المتواتر إذ لا تناقض بين خبرين اختلف زمنهما. لجواز صدق كل منهما في وقته.
فلوأخبرك مثلًا عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب. بأن أخاك الغائب لم يزل غائبًا ولم يأت منزله.
لأنهم كانوا بمنزله وليس بموجود. ثم أخبرك بعد ذلك رجل واحد بأن أخاك موجود في منزله الأن.
فهل يسوغ لك أن تقول له كذبت. لأني أخبرني عدد كثير قبلك أنه لم يأت؟
ولوقلت له ذلك لقال لك هم في وقت إخبارهم لك صادقون. ولكن أخاك جاء بعد ذلك.
فالمتواتر في وقت نزوله صادق.
وخبر الاحاد الوارد بعده صادق أيضًا.
لأنه أفاد تجدد شيء لم يكن.
فحصر المحرمات مثلًا في الأربع المذكورة في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة} [الأنعام: 145] الآية. صادق في ذلك الوقت.
لا يوجد محرم على طاعم بطعمه إلا تلك المحرمات الأربع.
فلا تحرم في ذلك الوقت الحمر الأهلية ولا ذوالناب من السباع ولا الخمر ولا غير ذلك.
فإذا جاء بعد خبر احاد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: حرم لحوم الحمر الأهلية بخيبر. فهل يسوغ لقائل أن يقول:
هذا الخبر الصحيح مردود لأنه يعارض حصر المحرمات في الأربع المذكورة في آية: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية؟
هذا الخب رالصحيح لا تناقضه الآية. لأنه إنما أفاد حكمًا جديدًا طارئًا لم يكن مشروعًا من قبل.
وأحكام الشريعة تتجدد شيئًا فشيئًا.
والآية لم تدل على استمرار الحصر المذكور فيها.
فتبين أن زيادة حكم طارئ لا تناقض بينها وبين ما كان قبلها.
وإيضاح هذا أن نسخ المتواتر بالاحاد إنما رفع استمرار حكم المتواتر ودلالة المتواتر على استمرار حكمه ليست قطعية حتى يمنع نسخها بأخبار الاحاد الصحيحة.
وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الأنعام.
وقصدنا مطلق المثال لما يقال: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله خالف فيه السنه برأيه.
وغرضنا أن نبين أنه رحمه الله لم يخالف شيئًا من ذلك. إلا لشيء اعتقده مسوغًا لذلك.
وأنه لا يترك السنة إلا لشيء يراه مستوجبًا لذلك شرعًا.
ومما يبين ذلك أنه كان يقدم ضعيف الحديث على الرأي.
قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ما نصه:
وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي.
وعلى ذلك بني مذهبه كما قدم حديث القهقة مع ضعفه على القياس والرأي.
وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس.
ومنع قطع يد السارق لسرقة أقل من عشرة دراهم. والحديث فيه ضعيف.
وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف.
وشرط في إقامة الجمعة المصر. والحديث فيه كذلك.
وترك القياس في مسائل الابار لاثار فيها غير مرفوعة.
فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة قوله. وقول الإمام أحمد:
وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعف في اصطلاح المتأخرين.
بل ما يسميه المتأخرون حسنًا قد يسميه المتقدمون ضعيفا اه. محل الغرض منه.
ومن أمثلة ما ذكر أن أبا حنيفة رحمه الله خالف فيها السنة لزوم الطمأنينة في الصلاة وتعين تكبيرة الإحرام في الدخول فيها والسلام للخروج منها.
وقراءة الفاتحة فيها والنية في الوضوء والغسل إلى غير ذلك من مسائل كثيرة.
ولا يتسع المقام هنا لذكر ما استدل به أبو حنيفة لذلك ومناقشة الأدلة.
بل المقصود بيان أن الأئمة لا يخلوأحد منهم من أن يؤخذ عليه شيء خالف فيه سنة وأنهم لم يخالفوها إلا لشيء سوغ لهم ذلك.
وعند المناقشة الدقيقة قد يظهر أن الحق قد يكون معهم وقد يكون الأمر بخلاف ذلك.
وعلى كل حال فهم مأجورون ومعذورون كما تقدم إيضاحه.
وقد أخذ بعض العلماء على مالك رحمه الله أشيئاء قال:
إنه خالف فيها السنة قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه:
وقد ذكر يحيى بن سلام قال: سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد أنه قالك أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم مما قال مالك فيها برأيه. قال: ولقد كتبت إليه في ذلك. انتهى محل الغرض منه.
ومعلوم أن مثل كلام الليث هذا عن مالك لا أثر له. لأنه لم يعين المسائل المذكورة ولا أدلتها.
فيجوز أن يكون الصواب فيها مع مالك لأدلة خفيت على الليث. فليس خفاؤها على مالك بأولى من خفائها على الليث.
ولا شك أن مذهب مالك المدون فيه فروع تخالف بعض نصوص الوحي.
والظاهر أن بعضها لم يبلغه رحمه الله ولوبلغه لعمل به.
وأن بعضها بلغه وترك العمل به لشيء آخر يعتقده دليلًا أقوى منه.
ومن أمثلة ما لم يبلغه النص فيه صيام ست من شوال بعد صوم رمضان.
قال رحمه الله في الموطأ ما نصه: إني لم أر أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف.
وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته.
وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء. ولورأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم. ورأوهم يعملون ذلك. اه منه بلفظه.
وفيه تصريح مالك رحمه الله بأنه لم يبلغه صيام ستة من شوال عن أحد من السلف. وهو صريح في أنه لم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أنه لوبلغه الترغيب فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان يصومها ويأمر بصومها. فضلًا عن أن يقول بكراهتها.
وهو لا يشك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرأف وأرحم بالأمة منه.
لأن الله وصفه صلى الله عليه وسلم في القرآن بأنه رؤوف رحيم.
فلوكان صوم السنة يلزمه المحذور الذي كرهها مالك من أجله لما رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولراعى المحذور الذي راعاه مالك.
ولكنه صلى الله عليه وسلم. ألغى المحذور المذكور وأهدره. لعلمه بأن شهر رمضان أشهر من أن يلتبس بشيء من شوال.
كما أن النوافل المرغب فيها قبل الصلوات المكتوبة وبعدها لم يكرهها أحد من أهل العلم خشية أن يلحقها الجهلة بالمكتوبات لشهرة المكتوبات الخمس وعدم التباسها بغيرها.
وعلى كل حال. فإنه ليس لإمام من الأئمة أن يقول هذا الأمر الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه لخشية أن يظنه الجهال من جنس الواجب.
وصيام الستة المذكورة. وترغيب النبي صلى الله عليه سولم فيه ثابت عنه.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه:
حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر جميعًا عن إسماعيل. قال ابن أيوب حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر» انتهى منه بلفظه.
وفيه التصريح من النبي بالترغيب في صوم الستة المذكورة فالقول بكراهتها من غير مستند من أدلة الوحي خشية إلحاق الجهال لها برمضان. لا يليق بجلالة مالك وعلمه وورعه. لكن الحديث لم يبلغه كما هو صريح كلامه نفسه رحمه الله في قوله: لم يبلغني ذلك عن أحد من السلف. ولوبلغه الحديث لعمل به.
لأنه رحمه الله من أكثر الناس اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحرصهم على العمل بسنته.
والحديث المذكور رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي. وصوم السنة المذكور رواه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه منهم ثوبان وبجابر وابن عباس وأبوهريرة والبراء بن عازب كما بينه صاحب نيل الأوطار.
وعلى كل حال فالحديث صحيح ويكفي في ذلك إسناد مسلم المذكور.
ولا عبرة بكلام من تكلم في سعد بن سعيد لتوثيق بعض أهل العلم له واعتماد مسلم عليه في صحيحه.
ومن أمثلة ما لم تبلغ مالكًا رحمه الله فيه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إفراد صوم يوم الجمعة. فقد قال رحمه الله في الموطأ ما نصه:
لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه. ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن.
وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه.
وأراه كان يتحراه. انتهى منه بلفظه.
وفيه تصريحه رحمه الله بأنه لم يسمع أحدًا من أهل العلم ينهى عن صوم الجمعة.
وأن ذلك حسن عنده. وأنه رأى بعض أهل العلم يتحرى يوم الجمعة ليصومه.
وهذا تصريح منه رحمه الله بأنه لم يبلغه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة واحده. وأمره من صامه أن يصوم معه يومًا غيره وإلا أفطر إن ابتدأ صيامه ناويًا إفراده.
ولوبلغته السنة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمل بها وترك العمل بغيرها.
لأن النهي عن صوم يوم الجمعة وحجه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه:
حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن محمد بن عباد. قال سألت جابرًا رضي الله عنه. أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الجمعة؟ قال: نعم. زاد غير أبي عاصم يعني أن ينفرد بصومه.
حدثنا عمر بن حفص بن غياث حديثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبوصالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يومًا قبله أوبعده»
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة ح وحدثني محمد حدثنا غندر حيثنا شعبة عن قتادة عن أبي أيوب عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم. دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: «أصمت أمس»؟ قالت: لا. قال: تريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا. «قال: فأفطري»
وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبوأيوب أن جويرية حدثته فأمرها. فأفطرت. انتتهى من صحيح البخاري بلفظه.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: